سيكولوجية امرأة معاصرة
دراسة فى ديوان "أنيس قلبى" للشاعرة / إيمان يوسف
منذ بدء الخليقة والإنسان يسعى إلى الأمان فى الزمان والمكان وتتعدد صور هذا الأمان فقد يتمثل فى صورة مال أو ثروة تؤمن الإنسان من عثرات الدهر وقد يتحقق فى صورة جاه أو صولجان يرضى غرور الكثير ، وقد يتجسد فى صورة صديق أو قريب أو حبيب ، والسبيل إلى ذلك هو الإنسان ، أى أن الأمان يتحقق للإنسان بوجود الإنسان ، وفى قربه يطمئن ويأنس ويحيا آمنا هادئاً وينعم بدفء العمر والخطو والحلم الجميل البرىء .
والصورة الأخيرة من صور الأمان هى مقصد كل قصائد "أنيس قلبى" ديوان شعر العامية للشاعرة السكندرية "إيمان يوسف" التى لا تكاد تخلص إلى بوح نفسى حتى يغمض عليها بوح نفسى آخر ولا تكاد تنتهى من الاعتراف بحلم مفقود حتى تتهيأ للاعتراف بآخر وهى بذلك تقدم لنا صورة متعددة الأشكال لسيكولوجية امرأة تبحث عن الأمان فى زمان يئن من قسوة الإنسان أو بتعبير أكثر تحديداً سيكولوجية امرأة تفتقد إلى دفء الروابط الإنسانية .
فهل ترى ... هى سيكولوجية "إيمان يوسف" أم أنها سيكولوجية المرأة الجديدة المعاصرة لهذا الزمان والتى خرجت للعمل تاركة دفء الأسرة فى المنزل كى تؤازر الرجل أو لتثبت وجودها باحثة عن دفء حياة أشمل ومستقبل أرحب ، فتشتت وتاهت فى فضاء ناس بلا جدران بعد أن تعاملت مع الواقع وتعامل الواقع معها فأمست باحثة عن دفء الإنسان وعن الأمان لاسيما بين جدران منزلها الصغير ... وتأمل قولها فى قصيدة "جوه سجن الاكتئاب" :
من جوه
سجن الاكتئاب
باكتب رسالتى
أنا باعنى من غموض
الانقباض
والاعتراض
والافتراض
أما الوداد
خارج حدود كل البلاد
وانا هنا
عذبنى سجان الضمير
ساحبنى لوم غاوى حسابى كل يوم
جوه ساعات
الاتهام
والالتحام
والالتزام
بين المشاكل والبشر
إلى قولها :
والسجن كون
تبقى مابينه
جوه حاله
لا أكون
ولا أى لون
غير السواد
أو الحياد
أما الجواد
دا حلم فارس
من سنين
وأكيد حييجى يوم
يحن وأركبه
واخرج معاه
بره مساحة الاكتئاب
ونرى هنا أن الشاعرة محبوسة فى سجن ذاتى بعد أن صدمتها صور الحياة الأليمة من غموض وانقباض واعتراض وافتراض واحتياجها إلى الوداد والحنان والأمان الذى أصبح خارج حدود كل البلاد وهى حالة اكتئاب تتجلى بوضوح فى الاحتياج إلى منقذ ، وهذا المنقذ مفقود تارك ثلج الكون يحيط بخارج الشاعرة ويتخلل داخلها ويتضح ذلك فى قصيدة "أترجى برودك" ص 36 :
يا وجع التلج فاغر البرد
غناك فـ ودانى بيحتد
على المد اللى ما بيتهد
يا ثلج الكون
أترجى برودك
يعتقنى
وما أشد الحاجة إلى أنفاس إنسان صادقة لا قاسية تشعر معها الشاعرة بالدفء وتذيب لها ثلج هذا الكون ويتأكد ذلك فى قصيدة "مواجهة" ص 31 ، وفيها تجيب الشاعرة عن سر هذا الثلج بقولها :
القسوة فـ قربك هى سر جليدك فـ جبينى
يا فارش لى نهارى بشوكك
وأمام البحث عن هذا الإنسان تصل الشاعرة إلى الشك فى كونها إنساناً تملك مصداقية الإحساس ـ حتى ـ بنفسها قبل الناس .
وتأمل قولها فى قصيدة "إنسان" ص 82 :
الدنيا بتعلم
الحب بيعلم
وانا لسه با تعلم
إزاى أكون إنسان
أنا عايزه أكون نفسى
أسمع صدى حسى
بالصدق والقوة
والحب ومروة
أدى اللى حواليا
قبل ما أقول ليا
وحنين ما بين أشواق
من غير بعاد وفراق
يا حب يا دوايا
كفايه بقى كفايه
جرحتنى دايما
أنا عايزه ضحكايه
وشموعى وبدايه
وهو نتيجة منطقية ومتوقعة أن تصل الشاعرة إلى مرحلة الحلم والأمنية والبحث عن الأمل فى منطقة اللاوعى محدثة ذاتها من خلال مونولوج داخلى يعكس حالة المرارة والفقد لهذا الحب الآمن وهذه الضحكة وتلك الشموع والبداية ، وهى حالة سيكولوجية لا تصيب إلا من هو فى مثل هذا النسيج النفسى للشاعرة والتى يتجسد حسها فى هذه الكلمات من قصيدة "صباح الجنة" ص 5 :
أنا عصفور ... يناجى الكون ... ويتودد
لأحلى ملاك ... صباح الجنه... حاستناك
فلقد رسمت الشاعرة صورة طباعها وخصالها وإحساسها ومشاعرها بمهارة وتحديد لا يقبل التأويل ، فهى عصفور ـ رمز البراءة ـ يحب هذا الكون ويتمنى الأليف الملاك لكى يحيا معها فى جنة تتجسد فى الواقع ... ولا تفقد الأمل فى وجوده بقولها حاستناك ولكن إلى متى ؟!!
وهى ـ لم تزل ـ ترسم اسمه وتكتبه ولا يضمها إلا على الورق وفى أحلام اليقظة ... وتأمل قولها فى مطر السواقى ص 77 :
فرقتنى ولملمتنى ... بارسم فـ إسمك واكتبه ... من طول بعادك ضمنى
وأمام ما سبق من اكتئاب وأحلام يقظة وأمنيات مفقودة لا تفقد الشاعرة قدرتها على التماسك والابتسام ومحاولة غسل تكشيرتها ... ص 28 :
واقعد ... أحاول أفهمه ... أمسح دموعى
تترمى من تانى أكتر ... أغسل فـ تكشيرتى
ما ترضاشى تتنضف ... نكد اترسم كالوشم ليه
واعمل له إيه ... حا حاول أصحى ... يمكن الحلم الكابوس ينتهى
والصحوة هنا ليست من النوم ولكنها من واقع كئيب يشبه الكابوس فى نفس الشاعرة .
وفى قصيدة "وصية" تجد الشاعرة فى ابنتها أمنية المعادل الإنسانى لتحقيق حلمها ولذا تسعى لكى تحذرها من هذا الواقع ومن الوقوع فى براثن الغليان الذاتى الانفعالى من جراء الهم والحزن ومن صراع القلب فى دوائر البحث عن الحنان ... وفيها تقول :
عيدى فـ صياغة نفسك
وآمنى للأزمان
شىء م القلق عادى
بيصاحب الإنسان
لكن فـ تكراره
بيتعب الأبدان
قومى اصلبى عودك
وادعى للرحمان
والابنة امتداد للأم ولا تبخل الأخيرة على الأولى بالنصيحة لأن فى عمرها عمراً ثانياً لها ولا تنسى أن تحصنها بالدعاء إلى الرحمن وقصد الله ـ سبحانه وتعالى ـ كمنقذ عقائدى .... وفى قصيدة "أنيس قلبى" وهى عنوان الديوان والمقصود به هو خال الشاعرة / حسن أنيس وطبيعى أن تلجأ الفتاة إلى حضن الخال للاحتواء والانتماء والحماية والولاية فالخال والد وقد نجح الخال فى توفير كل ذلك للشاعرة ، وفيها تقول :
أنيس قلبى مآنسنى
أقول الآه يونسنى
ولو بكيت يحايلنى
ويمسح دمعتى بإيده
ولكن هل يغنى الخال عن الحبيب المنشود وعن الرجل الملاك الذى تنشده الشاعرة لكى يحيا معها فى جنة الواقع ؟!
والإجابة قد تكون فى قصيدة "لإمتى" التى تعكس صراع الشاعرة مع الواقع ومع الزمان ، لكى تفلت من خوف ومن جرح وبكاء ، ولقد برعت فى تجسيد كل ذلك من خلال صورة شعرية مكتملة الأبعاد من حركة وصوت وصورة وتأثير :
ولأمتى حنطوف ... بصوانى القلق المتخفى فـ عب السنوات وآهات العمر
وفيما سبق يتضح لنا الخيط الرابط لقصائد الديوان والذى يتلخص فى رسم سيكولوجية المرأة التى يعوزها الإنسان الأمان ، وقد نجحت فى توصيله للقارىء ببساطة تعبير وتعدد التناول وصدق وتلقائية الصياغة الشعرية .